صدر مؤخّرا عن دار الاداب اللّبنانية باكورة الكاتب المغربي البشير الدّامون رواية
« سريرُ الأسرار» التي وسمتها لجنة قراءة الدّار بما يأتي :
« ما تقدّمه هذه الرّواية التي تتناول حكايات تفصح عن شريحة واسعة من الناس تنتمي إلى ما هو تحت القاع الاجتماعي يتّسم بالمصداقية إلى حدّ كبير.و تصبح السّيرة الذاتية تحكي تاريخا اجتماعيا للمدينة و للأنوثة ، وبذلك تبدو مأساة الفتاة أعمق وأشمل من كونها مجرّد مأساة أنثى. ثمّة وجود لمشاهد جميلة في الرّواية: مقاومة الفتاة لغرقها في النّهر، مقاومة علي للخنازير...»
..........................................................................
البشير الدامون: تصوير اليومي والمخجل والبراءة بدفء وحزن
بيروت (رويترز) - يطل الروائي المغربي البشير الدامون من خلال عمله الأخير "سرير الاسرار" بقدرة جذابة على السرد وعلى تصوير يفيض دفئا وحزنا وما يقرب من الحيادية احيانا للمخجل اجتماعيا وللبراءة واليومي من تفاصيل حياة بعض المعذبين في الارض.
واليومي عنده هو عادة مما لا يصرخ لافتا النظر والسمع وسط ضوضاء الحياة بل يمر ملفوفا بالتناسي وكأنه يطوى بتعمد في بعض الحالات ويدفن في اعماق الذاكرة هربا منه "خلقيا" او استصغارا لشأنه "ادبيا" في حالات اخرى.
الا ان هذا كله في رواية الدامون يتسلل الى نفس القارىء ليذكره بأن كثيرا من ماسي الانسان ومن اموره "الكبيرة" وغصاته ومنغصاته انما رسمته الحياة بنتف وخيوط تبدو صغيرة مشتتة ليعيد الكاتب الناجح التقاط الصورة الكبيرة واعادة رسمها بهذه النتف والخيوط.
وقد صدرت رواية البشير الدامون عن "دار الاداب" البيروتية في 221 صفحة متوسطة القطع. كلمة الناشر التي حملها غلاف الكتاب تشكل وصفا جيدا للرواية من بعض نواحي موضوعها اذ تقول "تتناول هذه الرواية حكايات تفصح عن شريحة واسعة من الناس تنتمي الى ما هو دون القاع الاجتماعي. انها حكايات تتعدى السيرة الذاتية لمأساة فتاة لتحكي تاريخا اجتماعيا للمدينة والانوثة."
بعض ما ورد في رواية "سرير الاسرار" يشكل صورة الهيكل الذي بنيت عليه الرواية. نقرأ كلام الفتاة الصغيرة التي كانت الراوية والشخصية الاساسية التي تكلم الكاتب عبرها ووصف تلك الحال الاجتماعية الانسانية من خلالها. قد يجد القارىء نفسه احيانا خلال قراءته عن الوضع الاجتماعي المفجع ومقارنته بأوضاع اجتماعية تختلف عنه مسرحا لتساؤلات منها استرجاع فكرة "وجودية" اساسية وان بشيء من التصرف في مفهوم " الوجود" ليصبح معناه هنا الوجود الاجتماعي لا المادي فحسب.. وليتساءل عنها وهل صحيح فعلا القول ان الوجود يسبق الماهية في المطلق اذا كانت "الماهية"تكيف والى حد بعيد "وجود" هذا الانسان اجتماعيا.. المقصود هنا ان "الماهية" قد تحكم وجود انسان ما سواء ابقته في حالة الغرق الاجتماعي التي ابصر فيها النور ام في حالة تتجاوزها اذا نجح في هذا التجاوز.
الفتاة التي ولدت في دار للدعارة فاكتسبت صفة "بنت الماخور" بطريقة شبه الية جعلت هذه الصفة وولادتها المادية كأنهما توأمان في الزمن. تتحدث عن علاقتها بصديقتها في المدرسة فتقول "داركم دار بغايا... هذا ما قالته لي سعيدة ونحن متوجهتان الى المدرسة. بدهشة نظرت اليها. لم ادرك معنى كلامها. ذكرت ان امها حدثتها عن اشياء قبيحة تجري في دارنا وأن امي مما زاهية ليست بأمي وهي امرأة غير شريفة قبل ان تخبرني ان امها منعتها من اللعب معي.
"بكيت كثيرا. هل لانني لن العب معها بعد اليوم.. ام بسبب ما سمعته عن امي وعن دارنا.. لم تتوقف دموعي. في المدرسة نهرتني المعلمة فازددت بكاء. قربتني اليها واحتضنتني. وددت لو اردد عليها ما حكته سعيدة وان تبقيني قريبة منها."
وتروي لنا ما جرى معها فتقول "تنغيص سعادتي تلك بدأ يوم نهر ابن جيراننا يوسف اخته سعيدة مانعا عنها اللعب معي. "لا تلعبي معها. انها بنت عاهرة" نترت الطفلة يدها مني. هرول كل الاطفال من امامي وبقيت انظر بحسرة فاقد شيء لا يعرف لم فقده."
ومع اننا ربما تساءلنا في شيء من الشك عن نجاح الرجل اي الكاتب في تقمص شخصية طفلة صغيرة ثم فتاة وبعدها امرأة شابة فمما لا شك فيه قدرته الكبيرة على تصوير حياة ذلك الحي الفقير بنهاراته وأمسياته ولياليه وبمشكلاته ومرح اطفاله الفقراء وثرثراتهم ولعبهم. انه احيانا ينقل القارىء الى تلك الاجواء ويكاد يجعله يعيش فيها يعينيه وعواطفه وبل يكاد يحمل اليه روائح ازقتها ونبض ناسها في منازلهم ودكاكينهم وألوان فقرها. يكتب الكاتب بقدرة شخص "ناضج" يستعير ذكريات طفلة صغيرة تروي حياة طفولتها وفتوتها مشاهداتها.
تتذكر الفتاة اذن طفولتها في ذلك الحي فتقول "محمولة بين يدي ام طويلة القامة عريضة الكتفين وتمد يدها لتشتري لي علبة بسكويت مغلفة بورق ذهبي وأنا ابكي من وجع ألمّ برأسي وأمي تنهر اطفالا يمدون اعينهم بنهم الى علبتي. من هذه الساحة حيث اصطفت عشرات الدكاكين يمنة ويسرة تبدأ الدرج المؤدية الى منزلنا صاعدة وقد رصت في انتظام بديع بحجارة ملساء يهبها انهمار المطر اللمعان.
"بدكاكين الساحة المتماثلة الحجم تعرض سلع مختلفة.. مواد غذائية وتوابل وألبسة تقليدية وجلود وأواني فخار. حوانيت من سلعها وسحنات اصحابها تجعلك تحس وكأنها تسافر بك لتحيلك على فضاء موغل في القدم لا يخترقه الزمن."
عندما تدخل الام السجن بتهمة ادارة بيت دعارة تشفق الجارة "مما رحمة" على الطفلة فتنزلها في بيتها. يسيطر على الطفلة اعجاب بعلي الاخ الاصغر النبيل الخلق والقوي لماما رحمة الذي كان يزور اخته بين فترة وأخرى.
وصف الكاتب للحياة في الحي مؤثر موح يشكل حركة مستمرة وجدير بأن يتابع دون ملل. وبدا ان الكاتب يعوض بذلك وبنجاح عن عدم بروز " احداث كبيرة" في الرواية. ولعل هذا العالم الصغير لا يمكن الا ان تكون احداثه في "حجمه" من الناحية "المادية" لكنها اذا قيست انسانيا فهي كبيرة دون شك.
نقرأ مع الكاتب بلسان الفتاة ما قد تكون ذاكرته قد حملته من عالم طفولته هو نفسه "يزداد شغبنا ونهرول نحن الاطفال يوم الجمعة لاستقبال شيخ ومريدي حينا. ويبدأ الترقب في الجهة السفلى من المقبرة. على ضفة الوادي صارت تلوح لنا معالم الموكب. غبار يتطاير وصدى دقات طبول تسايرها نغمات المزمار. ينجلي الموكب ونقترب منه في وجل واحترام. حصان قوي ابيض بغرة سوداء تتدلى على عنقه خصلات شعر فضية تزيده جمالا يمتطيه رجل ذو وجه صبوح تكسوه لحية بيضاء طويلة وعينان ساهمتان واضحتا المقلتين يزيدهما الكحل نضارة."
وحتى نهاية الرواية يستمر ذلك الخيط الوجداني الحزين الجذاب الحافل بالصور والمشاعر التي تشبه قصيدة حزينة مشكلا لوحة نهائية بعد لوحات ولوحات تروي حكايات متداخلة لتكوّن مجموعة قصص لناس هم في النهاية عالم صغير وهم في النهاية "الرواية" كلها. وتبدو الصور احيانا اقرب الى لوحات "مجانية" جميلة.. ومجانيتها هنا هي انها اقرب الى ان تخلق في حد ذاتها متعة يغمرها اسى شفاف دون ان تكون جزءا اساسيا ضروريا من رواية متماسكة.
تصف عليا في معركته "الادونيسية" مع الخنازير البرية الشرسة التي تهاجم حقول الذرة وبعدها خيبته اثر رفضها الزواج منه وبعد خيبته الكبرى بالفتاة "حبيبة" التي تزوجها فلم تكن وفية فهربت مع اخر وأدى صدام معه و"بلطجية" من رفقائه الى اصابة علي بعطب شديد.
في الختام قد تخطر في بال القارىء هنا قضايا كبيرة وشهداء فيتذكر مثلا قول الشاعر السوري الكبير الراحل عمر ابي ريشة.. "تجهل الامة ان ارخت على/ جرح ماضيها كثيف الحجب/ شرف الوثبة ان ترضي العلى/ غلب الواثب ام لم يغلب."
ففي "رمزية" قد تكون ابعد من عالم الحيوانات والبلطجية العاديين لتتناول قضايا مفجعة في عالمنا العربي الحالي تقول الفتاة "غدروك يا علي. شطبوا وجهك وأسفل بطنك بسكاكينهم. اهدروا صحتك ووسامتك. اليست الخنازير البرية ارحم من هؤلاء القذرة. على الاقل واجهتك بشجاعة ولم تغدر بك... اعماك الوهم يا علي. وهم الغيرة والعرض وحمل القضية. لملم جراحك بيديك الان وانظر لوجهك بشجاعة لا تنتهي. لا تخجل. انظر في المراة وشاهد كيف ان ملامح صفائك لم تمح ولم تختف. لم تتشوه يا علي. كل المرايا كاذبة. مرآتك انت الصادقة مرآتك الوحيدة نفسك. لا تيأس فخلف كل القضايا ضحايا..."
لبنان : جورج جحا
ستعرض الرواية لأول مرة بالمغرب أيام المعرض الدولي للكتاب بالدار البيضاء شهر فبراير 2008