تأبين الفقيد الأستاذ معمر نوري
من هيئة التدريس بمدرسة الحديث الحسنية
ما أصعب رحيلك الأبدي ، أيها العالم الفاضل ، على ذويك الذين اصطفوك وأعطوك من قلوبهم وبيوتهم ما جعل منك إمامهم المتميز ، ومعلمهم المتفرد بالدرر اللوامع ، وغيثهم الثر الذي كان يسقي أرضهم الموات في زمن كان لا يعرف فيه إلا ما يخالف العقل النابه والمعرفة الصائبة .
ما أقسى ذهابك عنا وعن مسقط رأسك الذي اغتنى بك ، واعتنى بعلمك ، واحتفى بمقامك ، وارتضاك نورا هاديا في لياليه الدامسة المترامية الأطراف. لم تكن أرضك تعرف العشب فكنت عشبها ومرعاها ، ولم تكن تجد الماء المستساغ فكنت نبعها وبحرها ، ولم تكن تقرأ وتكتب فكنت لوحها المحفوظ وكتابها المبين . ألم يكن عمك الحاضن يضعك في أعلى عليين ، ويحف وجهك البشوش بأكاليل الياسمين ؟ لأنك لم تخيب أمله في أن تكون عالما تقيا ، واعيا ، منافحا- كالبطل الشهم والتابع الغيور- عن دينك الذي ركبت بحره في جامعة القرويين المباركة ، واستهواك فيضه على ضفاف النيل فارتحلت نحوه مادا راحتيك إليه ، وفاتحا عينيك لكل قبس منه ، وشارحا صدرك لكل هداية إلاهية في غربتك الطويلة ، وباحثا – وأنت الشاب الفقير والمؤمن العابد – عن كل فضيلة يتحلى بها سجل سيرتك ، وتعصمك من كل فتنة في إتمام مسيرتك .
احببت السفر في طلب العلا فاتخذت من إرادتك مراكبك العتيدة التي لا تخاف قسوة الرياح ولا هوج العواصف ، وتغذيت من إيمانك البدوي الصلب ، رغبة منك في مجابهة صروف الليالي ، وآفات السنوات المتلاحقة لأنك – وأنت يتيم الوالدين في فجر طفولتك – ألهمت بأن والديك الأعزين الأكرمين هما العلم والإيمان ، وبيتك الأقدس هو الكتاب والقلم ، وميدان كراماتك هو بيت الله والمدرسة . فلم يخيب لك الله مسعى ، ولم يمنع يدك من أن تمتد لجني هذه الثمرة وقطف تلك الفاكهة ، ولم يطل عطشك فأعطاك من منابعه الماء القراح ، وأطعمك من مائدته ما ارتضيت من النعم ، وما استحليت من الغذاء .
غير أنك – وأنت الآن كوكب لامع في المدن التي احتضنتك : زايو ، شفشاون ، تطوان ، طنجة ، وجدة ، فاس ، مكناس ، الرباط – لم تبخل بما أعطاك الله من علم واسع ، ودين جامع ، وإيمان رائع على كل من احتك بك في مسالكك العديدة وصاحبك في مجالسك المعقودة في أماكنك المنتخبة، لأنها أهل لاحتضان تلاواتك، وتأويلاتك ، وأدبياتك ، وتعليقاتك على كل مايلقى على سمعك ، وما يراد به الوصول إلى خبايا فكرك . ولهذا رأيناك ونحن أطفال ، وأعجبنا بك ونحن رجال كيف أعلنت عن وطنيتك – وأنت في ريعان الشباب – تحت نوافذ الاستعمار الاسباني في زايو مؤكدا له أنك ابن وطنك السجين وتريد - ولو قيدت بالسلاسل- تحريره وتفضيله على أي جنة من جنات الدخيل الموعودة ، وأن لغتك العربية هي السراط المستقيم ، وأن دينك هو ما أتى به القرآن الكريم على لسان نبيه محمد خير الأنبياء والمرسلين . فكان جزاؤك السجن الذي أفقدك نور روابي قريتك وهواء عشياتها الناعمة ، ومنع لسانك من مواصلة أحاديثه في حلقات ذكرك وفكرك ، وحجب شخصك المرح عن عيون ناس قريتك الطيبين . فكان الحرج والضيق ، وكانت الغمة والظلمة ، وكان الأرق والقلق . وكان في الأخير- وذلك فضل من الله – الإفراج عنك فأصبحت بين عشية وضحاها ربيع الأبرار ، وواحدا من أبناء وطنك الأخيار . لأنك أنشأت أول مدرسة وطنية بزايو تعلمنا فيها لغة الذكاء ، وتمنحنا عبر أبجديتها مفاتيح المستقبل ومقاييس مساحة الوطن ، وتكشف لنا عن أسماء قادتنا المجاهدين : محمد الخامس ، عبد الكريم ، علال الفاسي ، عبد الخالق الطريس ، الزرقطوني ، وتذكرنا بمعارك وغارات مع الدخلاء الزاحفين ، وتضع في خلسة تحت أعيننا المندهشة جريدة " العلم " المحرمة لأنها لسان الوطن المقيد ، و " رسالة المغرب " حيث عبد الكريم غلاب يهيب بأصدقائه المبدعين لكي يعتصموا بحب الوطن ، وأن يغردوا بجمال لغة القرآن فوق كل فنن ، فحفظنا قصائد علال الفاسي ومحمد الحلوي وعبد المجيد بن جلون وعبد الكريم بن ثابت وشعراء آخرين من أبناء جلدتنا .
كنت إذن - أيها الحبيب – واصلة وصل بيننا وبين تاريخ أرضنا ، وناسجا في أعيننا خيوط علمنا وأشعة نجمته ، وزارعا في عقولنا وقلوبنا محبة الكتاب والاجتهاد والاكتشاف واختراق الآفاق البعيدة حتى نكون – ونحن زرع طالع وشباب ناهض – في مأمن من مغبة الجهل ، وأهلا لمغربنا المتحرر من سلاسل الدخيل . والحقيقة هي أن ما كنت تحثنا عليه وتضعه صوب أعيننا ، كان هو سيرتك بنفسها ، وأملك ودأبك يوما بعد يوم ، إذ رأيناك – تشريفا لسلطان العلم ، وتفانيا في بناء صرحه وحمايته – تبحث عنه في شخصيات أندلسية أرخصت فيها الغالي والنفيس مثل بقي بن مخلد ، وابن وضاح ، وثابت السرقسطي . وهؤلاء جميعا هم الذين زكوك وأجازوك ونصبوك أستاذا مقتدرا في مدرسة الحديث الحسنية حيث زها فرعك وكثر غيثك وعم فضلك ، واكتسى وجهك بنور القرآن والحديث .
ها نحن نودعك ونذكر لك فضلك وريعك ، ونسجل لك بامتنان آثار أياديك في حلك وترحالك ، ونبتهج لك لأنك تركت وراءك من يحمل مشعلك ويكرم صوتك وينشر صيتك . فنم ، أيها الفاضل ، قرير العين ولك منا جميعا الدعوات الصادقة ، والصلوات الفائقة و" إنا لله وإنا إليه راجعون "
ميمون نوري ( جامعة باريس الثامنة
ما أصعب رحيلك الأبدي ، أيها العالم الفاضل ، على ذويك الذين اصطفوك وأعطوك من قلوبهم وبيوتهم ما جعل منك إمامهم المتميز ، ومعلمهم المتفرد بالدرر اللوامع ، وغيثهم الثر الذي كان يسقي أرضهم الموات في زمن كان لا يعرف فيه إلا ما يخالف العقل النابه والمعرفة الصائبة .
ما أقسى ذهابك عنا وعن مسقط رأسك الذي اغتنى بك ، واعتنى بعلمك ، واحتفى بمقامك ، وارتضاك نورا هاديا في لياليه الدامسة المترامية الأطراف. لم تكن أرضك تعرف العشب فكنت عشبها ومرعاها ، ولم تكن تجد الماء المستساغ فكنت نبعها وبحرها ، ولم تكن تقرأ وتكتب فكنت لوحها المحفوظ وكتابها المبين . ألم يكن عمك الحاضن يضعك في أعلى عليين ، ويحف وجهك البشوش بأكاليل الياسمين ؟ لأنك لم تخيب أمله في أن تكون عالما تقيا ، واعيا ، منافحا- كالبطل الشهم والتابع الغيور- عن دينك الذي ركبت بحره في جامعة القرويين المباركة ، واستهواك فيضه على ضفاف النيل فارتحلت نحوه مادا راحتيك إليه ، وفاتحا عينيك لكل قبس منه ، وشارحا صدرك لكل هداية إلاهية في غربتك الطويلة ، وباحثا – وأنت الشاب الفقير والمؤمن العابد – عن كل فضيلة يتحلى بها سجل سيرتك ، وتعصمك من كل فتنة في إتمام مسيرتك .
احببت السفر في طلب العلا فاتخذت من إرادتك مراكبك العتيدة التي لا تخاف قسوة الرياح ولا هوج العواصف ، وتغذيت من إيمانك البدوي الصلب ، رغبة منك في مجابهة صروف الليالي ، وآفات السنوات المتلاحقة لأنك – وأنت يتيم الوالدين في فجر طفولتك – ألهمت بأن والديك الأعزين الأكرمين هما العلم والإيمان ، وبيتك الأقدس هو الكتاب والقلم ، وميدان كراماتك هو بيت الله والمدرسة . فلم يخيب لك الله مسعى ، ولم يمنع يدك من أن تمتد لجني هذه الثمرة وقطف تلك الفاكهة ، ولم يطل عطشك فأعطاك من منابعه الماء القراح ، وأطعمك من مائدته ما ارتضيت من النعم ، وما استحليت من الغذاء .
غير أنك – وأنت الآن كوكب لامع في المدن التي احتضنتك : زايو ، شفشاون ، تطوان ، طنجة ، وجدة ، فاس ، مكناس ، الرباط – لم تبخل بما أعطاك الله من علم واسع ، ودين جامع ، وإيمان رائع على كل من احتك بك في مسالكك العديدة وصاحبك في مجالسك المعقودة في أماكنك المنتخبة، لأنها أهل لاحتضان تلاواتك، وتأويلاتك ، وأدبياتك ، وتعليقاتك على كل مايلقى على سمعك ، وما يراد به الوصول إلى خبايا فكرك . ولهذا رأيناك ونحن أطفال ، وأعجبنا بك ونحن رجال كيف أعلنت عن وطنيتك – وأنت في ريعان الشباب – تحت نوافذ الاستعمار الاسباني في زايو مؤكدا له أنك ابن وطنك السجين وتريد - ولو قيدت بالسلاسل- تحريره وتفضيله على أي جنة من جنات الدخيل الموعودة ، وأن لغتك العربية هي السراط المستقيم ، وأن دينك هو ما أتى به القرآن الكريم على لسان نبيه محمد خير الأنبياء والمرسلين . فكان جزاؤك السجن الذي أفقدك نور روابي قريتك وهواء عشياتها الناعمة ، ومنع لسانك من مواصلة أحاديثه في حلقات ذكرك وفكرك ، وحجب شخصك المرح عن عيون ناس قريتك الطيبين . فكان الحرج والضيق ، وكانت الغمة والظلمة ، وكان الأرق والقلق . وكان في الأخير- وذلك فضل من الله – الإفراج عنك فأصبحت بين عشية وضحاها ربيع الأبرار ، وواحدا من أبناء وطنك الأخيار . لأنك أنشأت أول مدرسة وطنية بزايو تعلمنا فيها لغة الذكاء ، وتمنحنا عبر أبجديتها مفاتيح المستقبل ومقاييس مساحة الوطن ، وتكشف لنا عن أسماء قادتنا المجاهدين : محمد الخامس ، عبد الكريم ، علال الفاسي ، عبد الخالق الطريس ، الزرقطوني ، وتذكرنا بمعارك وغارات مع الدخلاء الزاحفين ، وتضع في خلسة تحت أعيننا المندهشة جريدة " العلم " المحرمة لأنها لسان الوطن المقيد ، و " رسالة المغرب " حيث عبد الكريم غلاب يهيب بأصدقائه المبدعين لكي يعتصموا بحب الوطن ، وأن يغردوا بجمال لغة القرآن فوق كل فنن ، فحفظنا قصائد علال الفاسي ومحمد الحلوي وعبد المجيد بن جلون وعبد الكريم بن ثابت وشعراء آخرين من أبناء جلدتنا .
كنت إذن - أيها الحبيب – واصلة وصل بيننا وبين تاريخ أرضنا ، وناسجا في أعيننا خيوط علمنا وأشعة نجمته ، وزارعا في عقولنا وقلوبنا محبة الكتاب والاجتهاد والاكتشاف واختراق الآفاق البعيدة حتى نكون – ونحن زرع طالع وشباب ناهض – في مأمن من مغبة الجهل ، وأهلا لمغربنا المتحرر من سلاسل الدخيل . والحقيقة هي أن ما كنت تحثنا عليه وتضعه صوب أعيننا ، كان هو سيرتك بنفسها ، وأملك ودأبك يوما بعد يوم ، إذ رأيناك – تشريفا لسلطان العلم ، وتفانيا في بناء صرحه وحمايته – تبحث عنه في شخصيات أندلسية أرخصت فيها الغالي والنفيس مثل بقي بن مخلد ، وابن وضاح ، وثابت السرقسطي . وهؤلاء جميعا هم الذين زكوك وأجازوك ونصبوك أستاذا مقتدرا في مدرسة الحديث الحسنية حيث زها فرعك وكثر غيثك وعم فضلك ، واكتسى وجهك بنور القرآن والحديث .
ها نحن نودعك ونذكر لك فضلك وريعك ، ونسجل لك بامتنان آثار أياديك في حلك وترحالك ، ونبتهج لك لأنك تركت وراءك من يحمل مشعلك ويكرم صوتك وينشر صيتك . فنم ، أيها الفاضل ، قرير العين ولك منا جميعا الدعوات الصادقة ، والصلوات الفائقة و" إنا لله وإنا إليه راجعون "
ميمون نوري ( جامعة باريس الثامنة
No hay comentarios:
Publicar un comentario