martes, diciembre 05, 2006

AHMED BENAJIBA, escribió

فلسفة العمران بمدينة تطوان العتيقة

أستهل مداخلتي هاته بقولة الدكتور يحي الو زيري من جامعة القاهرة في كتابه العمارة الإسلامية والبيئة«لا يمكن فهم العمارة الإسلامية إلا بنضرة شمولية ، وأكثر تعمقا»
حقا إن مناولة قضية كالتي بين أيدينا يحدده الفهم الجيد للإيواليات المتحكمة في ظهور المدينة الإسلامية،وتؤطره التقاطعات الكبرى والتي أفضت إلى هذا المنتوج الإنساني الضخم الشديد التعقيد، ومن هذا المنطلق، نتوقف عند حقيقة الحضور القوي والمتميز للبعد الفكري ولقوة التثاقف الذي حصل في هذا الجزء الغربي من العلم العربي-أثناء تأسيس المدينة الإسلامية. فالمعماري المسلم مشبع بثقافات الجوار(الثقافات الفارسية. الهندية،البزنطية) والمتأصلة في فنون العمارة.
إن البيئة التي انطلقت منها الدعوة الإسلامية لم تكن تملك تراكما عمرانيا بحجم ما وجد في مصر أو بلاد ارس أو بالهند والصين، اللهم ما ذكر في القرآن الكريم عن عمارة عاد وثمود،و عمارة ملكة سبأ.أو« الذين جابوا الصخرة في الواد»ومعناه عمارة البتراء بالأردن (500 ق م/106 م)هذه العمارة القبل الإسلامية لم يبق منها معروفا سوى’’البتراء’’ أما في مدن الإسلام الأولى فلم تعرف عمارة على شاكلة عمارة الأولين لكن في المقابل نجد أن العرب تعرفوا على البناية الهندسية المشخصة في ’’الكعبة’’ والتي قدسها عرب ما قبل الإسلام شكلا و مضمونا, فمن حيث شكلها الهندسي لم يجرؤ أي مكي بناء منزله على شاكلة الكعبة تقديسا لها.وكل بناء خالف شرع أهل مكة كان مصيره الهدم، كما مثل المسجد النبوي قاعدة أولى للعمارة الإسلامية في العالم العربي الإسلامي.و تابع العرب فيما بعد سنة الخلف في بناء مدنهم, فكان المسجد –أكورا- العرب و العمارة العربية ,ومنطلقا تفرعت عنه أحياء المدينة بشكل أشبه بدوائريتمدد شعاعها بالابتعاد عن المركز أي المسجد.
يرى بعض الباحثين الذين تتأسس أفكارهم على ثنائية الفن والدين كمرجعية للعمارة الإسلامية, أن النموذج الأندلسي والأندلسي المغربي والصقلي، هذه النماذج مجتمعة لها من الخصوصية ما يجعلها تتفرد على مثيلتها الشرقية من حيث دوافع التأسيس و أساليب وتقنيات البناء، صحيح قد نجد تشابها من حيث الشكل والأدوات المستعملة في البناء لكن ما تميزت به العمارة في الغرب الإسلامي هو الاستعمال الرقيق لهذه الأدوات واللمسات البعيدة عن خشونة الشرق ولعل بيئة الغرب الإسلامي المتشبعة بروح ونفحات البحر الأبيض المتوسط وخضرة المنطقة والتمازج الذي حدث فيها على المستوى البشري كان له وقع حسن في نفسية باني مدنها فكانت حقا تحفا مغروسة في الأرض توهم الناظر أن المدينة الأندلسية التطوانية هي استنساخ للجنة- كما صورها القرآن الكريم- على أرض شمال المغرب.
ونحن في هذه المدينة تطوان أو تطاوين حسب تسميتها الأمازيغية نستشعر ما قلناه سلفا عن خلفية الباني ومرجعياته الفكرية، فإن بناء المدينة في هذا الوضع والموقع بالتحديد لم يكن عشوائيا على اعتبار أنه ثمة كانت مخلفات وأطلال تطاوين القديمة التي ذكرها ’’البكري ’’ و’’كاربخا ل’’ لكن الأندلسيين استحسنوا موضع وموقع المدينة الاصل و ذلك لسببين. أولهما أمني لان المدينة في هذا الموضع تكون فعلا قد حققت الأمن لساكنتها وعززت قدراتها الدفاعية باعتماد عنصر الارتفاع و الإشراف من موقف قوة على سهل’’ مارتيل ’’ المفتوح على البحر, والسبب الثاني هو وفرة الماءالحجارة في عين مكان البناء, أي الاعتماد على مواد محلية دون حاجة لجلبها من أماكن بعيدةفي ظرفية زمنية جد حرجةلم تكن لتسمح بمزيد من إضاعة الوقت فالعدو أضحى أكثر عزما على إنهاء مشروع الوجود الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبيرية..
إن مخطط مدينة تطاوين من خلال هذا الاختبار أي الموضع والموقع وضع في الحسبان الإستراتيجية الدفاعية وإمكانية الفرار من الجهة الخلفية للمدينة.فجبل درسه شكل دوما ظهرا آمنا لساكنة تطوان وقد حدث ذلك فعلا إبان حرب تطاوين سنة 1860حيث فرمعظم ساكنة المدينة عبر مسلك الجبل في اتجاه المداشر المجاورة .
إن الباحث في العمارة التطوانية تستوقفه قدرة المعماري التطواني على استيعاب مسألة التفاعلات البيئية- رطوبة – حرارة – ضغط – الماء – كثافة الهواء.والتي لم ينفيها أو تجاهلها، بل استوعبها بذكاء قل نظيره في أشكال العمارة الشرقية، وهذه العناصر البيئية تعامل معها البناء-الفنان التطواني بجدية وإتقان، فبرع في إيجاد مخرج متوازن لهذه المكونات الأساسية للحياة. فبني بيتا حقق به معادلة التكييف من خلال فتحات اختلفت أحجامها ما بين الكبيرة كالحلقة المفتوحة في المستوى الأعلى للبيت,تتلخص وضيفتها في التهوية و الإنارة التي أطلق عليها التطواني كلمة ’’ ضوء الحلقة ’’ والضيقة كالشمامات الأسطوانية الموضوعة بشكل مائل قصدا,حتى لا تتحول إلى أعشاش للطيورفتعرض وضيفتها الأساسية- الإنارة والتهوية- للتشوه ، كما استعمل صخرا عرف محليا ب –أفرسي- وهو صخر كلسي خاصيته امتصاص الرطوبة و تحويلها إلى جو دافىء شتاء و العكس صحيح في فصل الصيف, كأنك أمام مكيف طبيعي تنتفي تكلفته, كما لو أن فلسفة التعمير بتطوان اسشرفت آفاق التكييف منذ فترة زمنية بعيدة.
نلمس من خلال هذا النموذج من العمارة أننا نغوص في مدينة منفتحة,خضراء بفضل وفرة مياهها كأنها لوحة زيتية معروضة للناظرين, عرفت الحداثة في فترات مبكرة, نتلقف هذا الإحساس في كل البنايات ساحة كانت أو مسجدا أو حماما أو سقاية أو فرنا،وبقوة ماعهدناها إلا في المدن المتشدقة بالنفحات الأندلسية الصرفة.
إن زرقة المتوسط نقلها التطواني إلى بيته فرش بها جدرانا وأعمدة وبساط المنازل التي أثثت سفح جبل درسة برداء خليط من الجبس والحجرالمصفف بشكل بديع تخر له الأعين إجلالا وتخرص لها الأفواه إعجابا. فأخرجت فسيفساء كأنه قوس قزح حل ضيفا على المنزل التطواني البهيج , وقد تميز الزليج التطواني وخاصة لونه الأزرق ببرودته أي’’لونه الفاتح’’المميزعن الأزرق الفاسي والسلاوي, ولعل ارتباط التطواني بالبحر وزرقته كان نبراس باني تطوان الاندلسية حيث استعار أمواجه لتتكسرللحظة على عتبات المنازل التطوانية, يتهيأ للبعض سماع خريرها عند دروب وأزقة تطوان الهادئة .
إن استعمال الزليج في البيت التطواني له دلالة سوسيو اقتصادية مهمة إذ يعكس المكانة والوضع الاجتماعي والاقتصادي لكل أسرة من أسر المدينة ، فحضوره يعني الغنى والترف وغيابه يعني التواضع في سلم الهرم الاجتماعي التطواني، إلى جانب الزليج استعمل البناء التطواني مادة ’’ الياجور أوالأجور’’ أو’’الراسية’’كما سماها الاوائل في بناء الأقواس هذه الأخيرة كانت تقوم مقام الدعامات الحالية .piliers» بل هي أمتن وأكثر تحملا للثقل ولعل 500سنة من الوجود خير دليل على متانتها و مقاومتها لقوى الطبيعة في وقت ترهلت فيه مباني حديثة تعود إلى عشرينيات القرن الماضي كعمارات الحي الإسباني بتطاون و التي بعضها مسها داء الهرم رغم محاولات إنقاذها و التي جاءت للحفاظ على جزء من ذاكرتنا الحديثة.
إن المزج بين التربة والجير واللبنات والحجارة والتبن في أحيان أخرى هو أحد أسرار صمود المدينة التطوانية القديمة مدة خمسة قرون بالرغم من تواجدها في مسار خط النار,حيث تتوالى الهزات الأرضية على المنطقة بشكل متتواتركانت آخرها هزة 1999/8/04, و التي بلغت 3.9 حسب سلم /رشتر,علاوة على الرطوبة التي تعد خاصية مناخية بالمنطقة,هذه الأخيرة تصل في فصل الصيف إلى 80/*في المائة.
تتضح عبقرية الصانع التطواني من خلال مداعبته لمادة الخشب,حاوره بخط عربي أنيق مزخرف بماء الذهب أو ألوان أخرى من وحي الطبيعة, مشرقة في أسقف البيت وعلى جدرانه .
اهتماماته تجاوزت ما هو جمالي إلى ما هو بيئي ,فالخشب الذي غالبا ما كان من نوع الأرز, يمتص الهواء الساخن الذي غالبا ما يصعد ويتجمع عند مستوى سقف البيت ويمنع تكون قطرات الماء. عكس الهواء البارد الذي ينزل إلى الأسفل بتأثير من ثقله الناتج عن تكاثف الهواء المشبع بالرطوبة ، فكانت مدينة تطوان حقا وبصدق أخت غرناطـــة بل هي قطعة أندلس جديد انبثقت للتو في ضفته المقابلة, من خارج رحمه الطبيعي.
عرف عن التطواني الخلق و الإبداع كلما تعلق الأمر بعنصر الماء، فهو سر وجود المدينة بل هو تطوان بذاتها, فاسمها يحمل دلالة الماء –تيطاوين-أي العيون بالأمازيغية ,إن موقعها عند سفح جبل درسة الغني بالمياه المتدفقة من جوف الكتلة الكلسية الغنية بفرشاتها المائية, دفع المعماري التطواني الاندلسي إلى البحث عن أفضل السبل لإسغلال هده المادة الحيوية بل وعقلنة توزيعها انطلاقا من منبعها مرورا بنقط التجميع لنصل فيما بعد إلى نقط التوزيع, قننها في قوارير فخارية مفرغة الجانبين كان قد ألف صنعها أيام الأندلس الخالدة،ربطها بحكمة بمخلفات النجارة التي سرعان ما تندس بين تلابيب القارورات فتنتفخ بعد تفاعلها مع عنصرالماء لتتحول إلى مادة لاحمة تحد من انفلات الماء ومن تسربه أو تلوثه.
إن المعدة أو العادلة أو ماء الفيض مصلحات أبدعها مهندس ماء تطوان , لذلك فإن تدبير الماء بمدينة تطوان العريقة يعكس الدراية العالية لساكنة تطوان بهذه المادة الحيوية هده الدراية مردها ثمانية قرون من التراكم الحضاري الذي حملته مخيلته من الفردوس المفقود وبذلك يكون قد حمل قطعة من الأندلس معه وأنبتها في أقرب نقطة من أرض أجداده..
إن لكل بيت تطواني حكاية ,وتمسك الأسر التطوانية بالنمط المعماري الاندلسي له دلالات نفسية عميقة نستخلصها في الحنين الى الديار وفراق الأحبة والآهل والتربة والجبل والواد الكبير وشجر الزيتون و شموخ النخلة العربية التي بكت ثمرها بعد مصيبة طرد زارعها كأنها وعت بفراق من أحسن إليها وتذوق حلاوتها. لذلك نعتبر أن البيت التطواني جمع كل ما هو جميل من الأندلس وصوره في منزله في تحف صغيرة لكنها ذات دلالات عميقة ، فالبيت التطواني هو بمثابة Terapia علاج جماعي للمهجرين، قد أدى دوره في تجاوزه الساكنة التطوانية الاندلسية ل Diaspora الجديدة و تبعاتها السيكو اجتماعية و لا زلنا نلحظ محدودية شبكة علاقات التطواني الأندلسي وانحصارها فقط على الأقربين و علىمن تجمعهم بهم مصالح المشركة, كما أن دماءهم لم تختلط كثيرا منذ قرون حرصا منهم على توريث ثقافة الأجداد و عاداتهم المتجدرة في عمق التاريخ إلى خلفهم.
*بعض معالم العمارة التطوانية الأندلسية:
تستوقفنا نقطة «الظل» و توظيفها من طرف المعماري التطواني عند بناء المدينة فكل أحيائها استفادت من نعمة الضلال التي تحمي الإنسان من لسعات الشمس في الصيف ومن وخزات الشتاء ومطره. وجدير بالذكر أن الدراسات العلمية الحديثة أبانت أن درجة حرارة الأرض تبرد بمقدار22.2% بعد خمس دقائق فقط من تضليلها , هذه الحقيقة يبدو أن المعماري المغربي الأندلسي أدرك أهميتها مند قرون فحرص على إحداثها بين أحياء المدينة ,وبقدر ما وفرته من دفئ وانتعاش شكلت هذه الأخيرة مصدر إزعاج حيث ساهمت أيضا في انتشار الرطوبة المؤذية لصحة ساكنة المدينة فبعض الأحياء المعتمة كحي المطامر الشديد الرطوبة, بناياته و أزقته الضيقة قد تتناسب و بيئات أخرى غير بيئة تطوان الرطبة كبيئات الجنوب الشبه الجافة، أما منطقة تطاون الرطبة تتطلب نمطا معماريا يستجيب لخصوصيتها المناخية و البيئية ،وقد تحقق دلك نسبيا في أحياء تعتبر الأحدث في المدينة كحي الإترنكات حيث الأزقة أكثر فساحة وأقل اعوجاجا.
إن اهتمام المعماري التطواني بثقافة الضلال و محاولة ترسيخها بين الدروب و الأزقة منبعه تشبعه بالثقافة الإسلامية وحرصه على نسخ الجنة التي وصفها الله في القرآن: «وأصحاب اليمين مااصحاب اليمين في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب » صدق الله العظيم.والظل الممدود يقصد به الظل الباقي الذي لا يزول ولا تمسه الشمس وهذا ما حاول التطواني أن يصنعه بمدينته الساحرة ولعل السائح بحي المطامير يلمس بوضوح هذه الحقيقة بل يتمتع ببرودة أزقتها في حر الصيف التطواني.
وبالخروج عن الديار والضلال تنتقل إلى مركز العمارة التطوانية ويتعلق الأمر بالمساجد و صوامعها . فعلى امتداد المدينة العتيقة ,لا يخلو حي من جامع أو مسجد, فالمساجد بتطوان لا تختلف كثيرا عن مساجد الغرب الإسلامي فالجامع الأعظم لا يملك قبة كالمساجد الشرقية وأسقفه من الخشب تعلوه طبقة من التراب المخلوط بالجير المستعمل كمادة لاحمة تتوجه طبقة من القرمود الأخضر المزلج, شكل أسقفه الداخلية مثلث فسيح, يتوسط المسجد صهريج للوضوء في باحته زادت المكان قدسية وجمالا ويعتبر هذا المسجد جوهرة مساجد تطوان القديمة .
وصوامع تطوان مربعة الشكل وهو السائد في كل ربوع المغرب بل الغرب الإسلامي بأكمله لكننا نجد أخرى مثمنة كجامع الباشا مثلا وزاوية الريسوني. وهي من تأثيرات شرقية كان أول ظهورها في العالم الإسلامي في عهد المماليك بمصر والشام. والواضح ان الشكل المربع للصوامع يعود بالأساس إلى كون المساجد الأولى في المغرب أقيمت محل الكنائس أو بنيت بالشكل ذاته على اعتبار أن المسيحية كانت ديانة المغاربة قبل الفتح الإسلامي.
يقول جوستاف لويون:«ان الإختلاف الواضح في فن العمارةالعربي يرجع الى اختلاف البلدان التي نشأ فيها وتفاعل » ومن هذا المنطلق فإن العمارة التطوانية متميزة ولها خصوصية جعلتها تنفرد عن باقي مدن المغرب من زاوية الموقع القريب من الأندلس بمعنى احتمال العودة لم يفارق مخيلة الإنسان التطواني الأندلسي ونستدل على ذلك أن بعض الأسر احتفظت بمفاتيح سكناها في الأندلس كما هو مروي في مخطوطات و تقييدات الرهوني و غيره...
بعد المساجد نقف عند حمامات وافران تطوان وهي من المرافق الأساسية و الحساسة في حياة التطواني العادي لما لها من أهمية سوسيو اقتصادية وثقافية سواء تعلق الأمر بارتباط الحمام بالنظافة التي هي أساس الإيمان في معتقد المسلم أو تعلق الأمر بالجانب العقدي فهو جزىء من المقدس و كذا عادات أهل هدا البلد , فحضور الحمام قوي في مخيلة التطواني فالحمام مجال للاحتفال،حضوره متميز في أفراحه و في المناسبات الدينية , و قد حرص على نظافته حد التقديس, إلا أننا وبالنظر إلى حجمه وشكله نقف عند حقيقة العلاقة بين حجم الحمام وشكله ومرافقه بأهمية الحي الاجتماعي الاقتصادي
فحمامات تطوان تختلف ما بين الواسعة كحمام الترانكات او اليهودي او حمامات متواضعة شكلا ومضمونا تعكس الكثافة السكانية الضعيفة للحي كحمام المنظري،والذي هو من أقدم حمامات تطوان...
أما الأفران فلم يخلو حي منها فدورها تجاوز طهي الخبز ليصبح مكمل الأفراح بتطوان وكل أفران تطوان كانت ومازالت تستعمل الحطب الوافد من الغابات المجاورة، وقد كان يسبب الإزعاج للساكنة خصوصا أيام الشرقي حيث يهبط الدخان إلى الأسفل بفعل عامل الانضغاط عكس رياح الغربي التي تدفعها عاليا وبذلك يحبذ أهالي تطوان هواء الغربي على الشرقي الرطب الذي يساعد على انتشار الدخان بين دروب وأزقة المدينة.وابرز ما يلفت الأنظار في عمارة المدينة القديمة هو التقسيم المحكم لوظائف الأحياء.
فإذا اعتبرنا إن المدينة الإسلامية تنطلق من المركز أي المسجد وبشكل دائري فإن ما يميز تطوان عن باقي المدن العتيقة هو موقع الأحياء الحرفية التي تقع شمال= البلاد= لما لهذه الحرف من تأثير سلبي على صحة المواطنين وخاصة حرفة الدباغة التي تتموقع في أقصى شمال المدينة-,نتحدث هنا عن المكان الحالي لدار الدباغة-
. وشاءت حكمت باني تطوان ان يكون موقعها كذلك نظرا لوعيه بخطورة هذه الصناعة على صحة الساكنة وموقعها المرتفع نسبيا جعل كل الروائح المنبعثة منها تصرفها الرياح شرقية كانت أم غربية دون أن تتسرب إلى المدينة وهنا نقف عند حقيقة الوعي التطواني بالتوازنات البيئية و بمسارات الرياح المحلية. هذا إذا علمنا أن حرفة الدباغة تحتاج إلى ماء كثير والى تصريف خاص للمياه المستعملة والتي غالبا ماتكون نتنة لذلك فكرمعماري المدينة في ايجاد حل لهذه المشكلة, فجعل لها تصريف خارجي خاص.
* الرمزية في المدينة العتيقة:
لا يخفى على أحد أن مدينة تطوان هي مدينة الرموز بامتياز فلم يشأ باني المدينة أن يغفل أدق تفاصيلها والتي لا يفقه معانيها إلى العارف بتأويلها. ونبتدئ كلامنا بعبارة بنيت تطوان في سنة«تفاحة»هذه العبارة مازالت منقوشة عند المستوى الأعلى لسقاية باب العقلة وهذا يعبر عن مدى حرص أهالي تطوان استعمال الرموز وشفرات خاصة حتى في حدث مهم كحدث بناء المدينة و القصد على الأرجح سنة....898..هجرية
أما الرمز الثاني هو أرضية الأزقة فقد حرص التطواني على توضيح مسارات الإحياء من خلال تصفيف الأحجار و بخاصة عند مستوى وسط الطريق(...)الرمز الثالث نجده عند بوابات المنازل فالمفتاح أو الرمانة أو الصفيحة حسب المأثور لها دلالات عديدة فالرمانة تعني أن أهل الدار قدموا من منطقة غرناطة هذه التأويلات لم نجد لها سندا في كتابات السلف اللهم النزر القليل المبني على الرواية الشفوية .
الرمز الرابع هو الغرابة فالبيت التطواني يضع الناظر في حيرة من خارج أمره,فالبناية من الخارج لا تعكس عظمة وجمال و سعة الفضاء الداخلي للبيت الذي امتزجت فيه الألوان بخرير الماء المتدفق من النافورة التي قد نجدها تتوسط فناء بيت أعيان المدينة أو من قناة مدفونة تحت أبنية المدينة توصل الماء إلى بيوت أهل تطوان و بالمجان ,و بأشعة الشمس الساقطة من فتحة ضوء الحلقة,والتي تسمح بمرور الهواء والضوء إلى باحة المنزل . والملاحظ إن معظم النوافذ الواقعة داخل المنزل واسعة وضخمة حرص المعماري التطواني على تزينها بشباك حديدي على طريقة الارابسك، عكس النوافذ الخارجية أخذت شكل أثقاب متواضعة مستديرة أو مستطيلة ,الجزء الخارجي منها واسع بينما الجزء الداخلي ضيق وذلك بهدف توسيع زاوية النظر والرؤية (المراقبة أو الحراسة). هذا من جهة ومن جهة أخرى استقبال الأشعة المباشرة بكميات أوفر, والسماح لها بالدخول إلى البيت .
كما أن الاختلاف الواقع بين حجم النوافذ في الداخل وحجمها في الخارج لا نجد له تفسير سوى في حرص المعماري التطواني توفير عنصر الخصوصية والوقار لعائلته. إن الاختلاف في شكل واختيار حجم النوافذ مبعثه أيضا حرص أهل تطوان تحقيق التوازن في مسألة التبادلات اليومية و السنوية للهواء داخل فضاء المنزل. خاصة بين الليل و النهارأو بين الصيف و الشتاء.
ونجد تفسير هذه الظاهرة في اختلاف وزن الهواء فكلما برد ارتفعت كثافته و نزل إلى أسفل نقطة في البيت بفعل ثقل الهواء . والعكس صحيح. علاوة على قدرة الحجر الكلسي على الامتصاص و هو مكون أساس في المدينة التطوانية ومن خاصية الحجر فقدان الحرارة بسرعة ،واكتسابها بسرعة وهدا ما يفسر الاختلاف الحراري في البيت المبني بالحجارة.
وبالنظر إلى بنية حيطان المنزل التطواني الأصيل ونوافذه نجد أن المعماري التطواني حرص كذلك على تحقيق عزل جيد للمنازل عن الفضاء الخارجي, وتبقى أصوات الحرمات بعيدة عن مسامع أهل الحارة فالحيطان السميكة والأفنية الداخلية والفتحات الخارجية الضيقة المتقنة الصنع كما بينا . ساهمت إلى حد كبير في عزل البيت التطواني عن الخارج،ومن هنا نقول بأن النيابة الإسلامية التطوانية ومثيلتها الأندلسية والمغربية سبقت عصرها في إبداع فضاءات معزولة لم نعهدها إلا في السنوات الأخيرة كقاعات تدريس اللغات وقاعات المعدة للبث الإذاعي.
ولا تنحصر عبقرية البناء التطواني في ما قلناه بل نجدها أيضا إلى الأزقة الملتوية والضيقة وذات السقف المنحني كأننا في سرداب أو لغز يصعب فك طلاسمه.
وتتميز دروب وأزقة المدن القديمة بضيقها والتوائها، هذا الالتواء والضيق لم يأت اعتباطا بل عن نية مسبقة فعلى المستوى الاستراتيجي نجد أن الالتواء يسهل عملية الدفاع عن المدينة في حالة الخطر,كما أن الإلتواء يدفع العدو إلى التيهات في دروبها. و يمكن اعتبار الالتواء أفضل وسيلة لتكسير قوة الرياح الباردة في فصل الشتاء وتلطيفها صيفا، وعلى المستوى النفسي فإن الطريق المستقيمة تبعث عن الملل عكس الطريق الملتوية، كل هذه الاعتبارات جعلت من المعماري التطواني سيد مدينته.
في الحقيقة أضاف المعماري التطواني الأندلسي الكثير للعمارة المغربية ولعل ما ذكرناه من حسن البناء وحسن اختيار المواد التي بنيت بها المدينة والرموز التي بينت إنسانية الإنسان التطواني وحسه الاجتماعي وحبه للجمال وتدبيره للماء بالشكل الذي ما ترك بيتا إلا دخله فحولها جنان ظليلة.كل هذه القيم والإضافات جعلت موضوع مدينة تطوان موضوعا خصبا للبحث والمناقشة، ومن هذا المنبر وفي هذه الليالي الفلسفية الرمضانية ارفع صوتي لأدعو كل غيور على هذه المدينة إلى المشاركة في إعادة الاعتبار لمدينة تطوان أو تطاوين خصوصا أنها اعتبرت مؤخرا تراثا عالميا للإنسانية وإعادة الحياة للمرافق الاجتماعية التي تتعرض للتحول أو الاندثار (مثال الأفران) والحمامات والمراحيض العمومية هذه الأخيرة ذهبت و إلى الأبد إلى أدراج النسيان.وبذلك نكون قد حافظنا على مشروع أجدادنا الذين جعلوا من الخراب جنانا و من الأحجار الصامتة قصورا تتغنى بالدفئ والحياة.
والسلام عليكم

المراجع=
عمدة الراوين........---------.للفقيه الرهوني
تاريخ تطوان ========= ذ محمد داوود
ماء السكوتدو========= ذ عرفة بن عزوز

No hay comentarios:

Publicar un comentario